فصل: قال السمرقندي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم




.تفسير الآية رقم (51):

قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان فرق البحر للإبقاء البدني وكان إنزال الكتاب للإبقاء الديني عقبه به وكان الطبع السليم والمزاج المستقيم يقتضي إحسان العمل زمن المواعدة واستعطاف المواعد والترفق له والتملق بما تحقق الرجاء في إنجاز وعده لاسيما بعد بليغ إحسانه بالإنجاء من العدو وإهلاكه نعى عليهم عملهم بخلاف ذلك بقوله: {وإذ}.
وقال الحرالي: لما ذكّرهم تعالى بأمر الوفاء بالعهد الذي هو خاتمة أمرهم وبالتفصيل الذي كان بادية أمرهم نظم ذلك بالأمر المتوسط بين الطرفين الذي أعلاه مواعدة موسى عليه السلام ربه الذي النعمة عليه نعمة عليهم فقال: وإذ {واعدنا} من الوعد وهو الترجية بالخير، ووعدنا من المواعدة وهي التقدم في اللقاء والاجتماع والمفاوضة ونحوه {موسى} كلمة معربة من لفظ العبراني بما تفسيره فيما يقال ماء وشجر، سمي به لما أودع فيه من التابوت المقذوف في اليم {أربعين ليلة} هي كمال وقت الليل والليل وقت انطماس المدركات الظاهرة- انتهى.
وخص الليل بالذكر إشارة إلى أن ألذ المناجاة فيه وإلى أنه لا نوم في تلك المدة بل المناجاة عامة لليلها ونهارها، وانتصب أربعين بوقوعه موقع المفعول الثاني لوعدنا أي انقضاء أربعين أي الكلام أو إنزال التوراة عند انقضاء الأربعين وهي ذو القعدة وعشر من ذي الحجة وقيل ذو الحجة وعشر من المحرم.
قال الحرالي: وفيه إشعار بأن المناجاة إنما يتهيأ لها لميقات حبس النفس عما به قوامها وكمال ذلك إنما هو الصوم وكمال العدد الذي هو طور مصير من حال إلى حال هو الأربعون، وذكر الميقات بالليالي يشعر أن مناجاته صباح من ظلمة الكون في حال خصوص الخلقة من حيث إن الظلمة آية على فوت مرام نور الحق والنهار آية على ظهور نور الحق وأول بادٍ بدأ من الحق للخلق كلامه لمصطفى من خلقه بغير واسطة وهو بعد في دنياه وفي أرضه التي كانت سجنًا، فلما جاءها الحق لعبد من عبيده مناجيًا له كما يأتيها يوم الجزاء بعد البعث صارت موطن رحمة وهدى ونور وهو مجيء الله سبحانه من سيناء المذكور في الكتاب الأول. انتهى.
وهذا دون قصة المعراج التي كانت لنبينا صلى الله عليه وسلم في اختراق السماوات العلى إلى سدرة المنتهى إلى ما لا يعلمه إلاّ الله تعالى وسمع الكلام من غير واسطة ورجع إلى بيته في ليلته وقد قطع من المسافات ما مسيرته خمسون ألف سنة كما سأبينه إن شاء الله تعالى في سورة السجدة.
ولما كانت الأنفس الأبيّة والهمم العلية تقتضي النفرة من الظالم والأنفة من كل ما ينسب إليه ويذكّر به وكانوا قد اتخذوا من آثار آل فرعون من حليهم ما دخلوا في رقه وعبوديته وكانت مشاهدتهم لما رأوا من الآيات مقتضية لغاية البعد من الكفر عبر عن مواقعتهم له بثم فقال: {ثم اتخذتم} قال الحرالي: من الاتخاذ وهو افتعال مما منه المواخذة كأنه الوخذ، وهو تصيير في المعنى نحو الأخذ في الحس، وفيه تكلف، {العجل} وذكر في هذا التقرير أصل المواعدة وذكر الميقات وتجاوز الخطاب ما بعد ذلك من مهل حسب ما تفهمه كلمة ثم، فاقتضى إفهام ذلك ما نالوه من الخير ثم تعقبوا ذلك بالتزام عادتهم في معاودة ما اعتادوه من أعمالهم إلى أدنى عمل من لا عقل له ولا بقية نظر له من اتخاذ جسد عجل إلهًا بعد معرفة آثار الإلهية على الغيب، ففيه تعجيب من أن موسى عليه السلام إنما واعده الله بالمناجاة بعد ميقات أربعين صومًا ونسكًا وتحنثًا وانقطاعًا إلى ربّه ثم يرونهم أنهم شهدوا الإله مصورًا محسوسًا على أن موسى الذي ناجاه ربّه منع الرؤية فكيف بهم وذلك هو ظلمهم، فوضعوا الإله محل الشيء المحسوس وهو تعالى قد تعالى عن أن يراه صفيه الذي ناجاه في دنياه وإنما ناجاه بعد ميقاته، وهم يهمون في تألّه مرئي من غير مواعدة ولا اختصاص! وفي قوله تعالى: {من بعده} أي من بعد إتيانه لميعادنا إضمار لذكر موسى عليه السلام تقريرًا لما كان ينبغي أن يكونوا عليه من الارتقاب لما يأتيهم به موسى من فوائد المناجاة، كما يكون من تعلق قلبه بمن هو قدوته، والبعد بعد عن حد يتخذ مبدأ ليكون سابقه قبل ولاحقه بعد- انتهى.
واثبات الجار لأن اتخاذهم ذلك لم يستغرق زمان البعد {وأنتم ظالمون} فاعلون فعل من هو في أظلم الظلام بعد أنجاءكم موسى بالنور المبين. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الخازن:

قال العلماء: لما أنجى الله بنى إسرائيل من البحر وأغرق عدوهم ولم يكن لهم كتاب ولا شريعة ينتهون إليهما، وعد الله موسى أن ينزل عليه التوراة فقال موسى لقومه: إني ذاهب إلى ميقات ربي لآتيكم منه بكتاب فيه بيان ما تأتون وما تذرون، ووعدهم أربعين ليلة واستخلف عليهم أخاه هارون فلما جاء الموعد أتاه جبريل عليه الصلاة والسلام على فرس يقال له: فرس الحياة لا يصيب شيئًا إلا حيي ليذهب بموسى إلى ميقات ربه فرآه السامري، وكان صائغًا اسمه ميخا.
وقال ابن عباس: اسمه موسى بن ظفر، وقيل: كان من أهل ماحرا وقيل كرمان وقيل من بني إسرائيل من قبيلة يقال لها السامرة وكان منافقًا يظهر الإسلام وكان من قوم يعبدون البقر فلما رأى جبريل على ذلك الفرس ورأى موضع قدم الفرس يخضر في الحال فقال في نفسه إن لهذا لشأنًا وقيل رأى جبريل حين دخل البحر قدام فرعون فقبض قبضة من تراب فرسه وألقى في روعه، أنه إذا ألقي في شيء حيي فلما ذهب موسى إلى الميقات، ومكث على الطور أربعين ليلة وأنزل الله عليه التوراة في الألواح وكانت الألواح من زبرجد، وقربه نجيًا وأسمعه صرير الأقلام وقيل: إنه بقي أربعين ليلة لم يحدث فيها حدثًا حتى هبط من الطور، وكان بنو إسرائيل قد استعاروا حليًا كثيرًا من القبط حين أرادوا الخروج من مصر بعلة عرس لهم فلما هلك فرعون وقومه بقي ذلك الحلي في أيديهم فلما فصل موسى قال لهم السامري: إن الحلي الذي استعرتموه من القبط غنيمة لا تحل لكم فاحفروا حفيرة وادفنوه فيها حتى يرجع موسى، ويرى فيها رأيه وقيل: إن هارون أمرهم بذلك فلما اجتمعت الحلي أخذها السامري وصاغها عجلًا في ثلاثة أيام، ثم ألقى فيها القبضة التي أخذها من تراب فرس جبريل عليه الصلاة والسلام فصار عجلًا من ذهب مرصعًا بالجواهر وخار خورة وقيل: كان يخور ويمشي، فقال لهم السامري؛ {هذا إلهكم وإله موسى فنسي} أي فتركه هاهنا وخرج يطلبه وكان بنو إسرائيل قد أخلفوا الوعد، فعدوا اليوم مع الليلة يومين فلما مضى عشرون يومًا، ولم يرجع موسى وقعوا في الفتنة وقيل: كان موسى وعدهم ثلاثين ليلة ثم زيدت العشرة فكانت فتنتهم في تلك العشرة.
فلما مضت الثلاثون ولم يرجع موسى، ظنوا أنه قد مات ورأوا العجل وسمعوا قول السامري فعكف عليه ثمانية آلاف رجل يعبدونه، وقيل: عبده كلهم إلا هارون مع اثني عشر ألف رجل وهذا أصح فذلك قوله عز وجل: {ثم اتخذتم العجل}. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا موسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} قرأ أبو عمرو {وعَدْنَا} بغير ألفٍ، واختاره أبو عبيد ورجّحه وأنكر {وَاعَدْنَا} قال: لأن المواعدة إنما تكون من البشر، فأما الله جل وعز فإنما هو المنفرد بالوعد والوعيد.
على هذا وجدنا القرآن؛ كقوله عز وجل: {وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق} [إبراهيم: 14] وقوله: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [النور: 55]، وقوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال: 7].
قال مكيّ: وأيضًا فإن ظاهر اللفظ فيه وَعْدٌ من الله تعالى لموسى، وليس فيه وعد من موسى؛ فوجب حمله على الواحد، لظاهر النص أن الفعل مضاف إلى الله تعالى وحده؛ وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وأبي جعفر وشيبة وعيسى بن عمر؛ وبه قرأ قتادة وابن أبي إسحاق.
قال أبو حاتم: قراءة العامة عندنا {وعدنا} بغير ألف؛ لأن المواعدة أكثر ما تكون بين المخلوقين والمتكافئين، كل واحد منهما يَعِد صاحبه.
قال الجوهري: الميعاد: المواعدة والوقت والموضع.
قال مكيّ: المواعدة أصلها من اثنين، وقد تأتي المفاعلة من واحد في كلام العرب؛ قالوا: طارقت النّعل، وداويت العليل، وعاقبت اللص؛ والفعل من واحد.
فيكون لفظ المواعدة من الله خاصة لموسى كمعنى وعدنا؛ فتكون القراءتان بمعنىً واحد.
والاختيار {وَاعَدْنَا} بالألف لأنه بمعنى وعدنا في أحد معنييه، ولأنه لابد لموسى من وعد أو قبول يقوم مقام الوعد فتصح المفاعلة.
قال النحاس: وقراءة {وَاعَدْنَا} بالألف أجود وأحسن، وهي قراءة مجاهد والأعرج وابن كثير ونافع والأعمش وحمزة والكسائي؛ وليس قوله عز وجل: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات} من هذا في شيء؛ لأن {وَاعَدْنَا موسى} إنما هو من باب الموافاة؛ وليس هذا من الوعد والوعيد في شيء، وإنما هو من قولك: موعدك يوم الجمعة، وموعدك موضع كذا.
والفصيح في هذا أن يقال: واعدته.
قال أبو إسحاق الزجاج: {واعدنا} هاهنا بالألف جيّد؛ لأن الطاعة في القبول بمنزلة المواعدة؛ فمن الله جل وعز وَعْد، ومن موسى قبول واتباع يجري مجرى المواعدة.
قال ابن عطية: ورجّح أبو عبيدة {وعدنا} وليس بصحيح؛ لأن قبول موسى لوعد الله والتزامه وارتقابه يشبه المواعدة. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن هذا هو الإنعام الثالث.
فأما قوله تعالى: {وَإِذْ واعدنا} فقرأ أبو عمرو ويعقوب وإذ وعدنا موسى بغير ألف في هذه السورة وفي الأعراف وطه وقرأ الباقون واعدنا بالألف في المواضع الثلاثة، فأما بغير ألف فوجهه ظاهر لأن الوعد كان من الله تعالى، والمواعدة مفاعلة ولابد من اثنين، وأما بالألف فله وجوه:
أحدها: أن الوعد وإن كان من الله تعالى فقبوله كان من موسى عليه السلام وقبول الوعد يشبه الوعد، لأن القابل للوعد لابد وأن يقول أفعل ذلك، وثانيها: قال القفال: لا يبعد أن يكون الآدمي يعد الله ويكون معناه يعاهد الله.
وثالثها: أنه أمر جرى بين اثنين فجاز أن يقال واعدنا.
ورابعها: وهو الأقوى أن الله تعالى وعده الوحي وهو وعد الله المجيء للميقات إلى الطور، أما موسى ففيه وجوه:
أحدها: وزنه فعلى والميم فيه أصلية أخذت من ماس يميس إذا تبختر في مشيته وكان موسى عليه السلام كذلك.
وثانيها: وزنه مفعل فالميم فيه زائدة وهو من أوسيت الشجرة إذا أخذت ما عليها من الورق وكأنه سمي بذلك لصلعه، وثالثها: أنها كلمة مركبة من كلمتين بالعبرانية فمو هو الماء بلسانهم، وسى هو الشجر، وإنما سمي بذلك لأن أمه جعلته في التابوت حين خافت عليه من فرعون فألقته في البحر فدفعته أمواج البحر حتى أدخلته بين أشجار عند بيت فرعون، فخرجت جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن فوجدن التابوت فأخذنه فسمي باسم المكان الذي أصيب فيه وهو الماء والشجر.
واعلم أن الوجهين الأولين فاسدان جدًا، أما الأول: فلأن بني إسرائيل والقبط ما كانوا يتكلمون بلغة العرب فلا يجوز أن يكون مرادهم ذلك، وأما الثاني: فلأن هذه اللفظة اسم علم واسم العلم لا يفيد معنى في الذات والأقرب هو الوجه الثالث وهو أمر معتاد بين الناس، فأما نسبه صلى الله عليه وسلم فهو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. اهـ.
قوله تعالى: {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}.
قال الفخر:
إن موسى عليه السلام قال لبني إسرائيل: إن خرجنا من البحر سالمين أتيتكم من عند الله بكتاب بين لكم فيه ما يجب عليكم من الفعل والترك، فلما جاوز موسى البحر ببني إسرائيل وأغرق الله فرعون قالوا: يا موسى ائتنا بذلك الكتاب الموعود فذهب إلى ربه ووعدهم أربعين ليلة وذلك قوله تعالى: {وواعدنا موسى ثلاثين لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ ميقات رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] واستخلف عليهم هارون ومكث على الطور أربعين ليلة وأنزل الله التوراة عليه في الألواح، وكانت الألواح من زبرجد فقربه الرب نجيًا وكلمه من غير واسطة وأسمعه صرير القلم، قال أبو العالية وبلغنا أنه لم يحدث حدثًا في الأربعين ليلة حتى هبط من الطور. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} أربعين نصب على المفعول الثاني، وفي الكلام حذف؛ قال الأخفش: التقدير وإذ واعدنا موسى تمام أربعين ليلة؛ كما قال: {واسأل القرية} [يوسف: 82] والأربعون كلها داخلة في الميعاد.
والأربعون في قول أكثر المفسرين: ذو القعدة وعشرة من ذي الحجة.
وكان ذلك بعد أن جاوز البحر وسأله قومه أن يأتيهم بكتاب من عند الله؛ فخرج إلى الطور في سبعين من خيار بني إسرائيل، وصعِدوا الجبل وواعدهم إلى تمام أربعين ليلة؛ فعدّوا فيما ذكر المفسرين عشرين يومًا وعشرين ليلة، وقالوا قد أخلفنا موعده.
فاتخذوا العجل؛ وقال لهم السامريّ: هذا إلهكم وإله موسى، فاطمأنوا إلى قوله.
ونهاهم هارون وقال: {يا قوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أَمْرِي قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى} [طه: 90].
فلم يتبع هارون ولم يطعه في ترك عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفا فيما روي في الخبر.
وتهافت في عبادته سائرهم وهم أكثر من ألفي ألف؛ فلما رجع موسى ووجدهم على تلك الحال، ألقى الألواح فرفع من جملتها ستة أجزاء وبقي جزء واحد وهو الحلال والحرام وما يحتاجون؛ وأحرق العجل وذراه في البحر؛ فشربوا من مائه حُبًّا للعجل؛ فظهرت على شفاههم صفرة وورمت بطونهم؛ فتابوا ولم تُقبل توبتهم دون أن يَقتلوا أنفسهم؛ فذلك قوله تعالى: {فتوبوا إلى بَارِئِكُمْ فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 54].
فقاموا بالخناجر والسيوف بعضهم إلى بعض من لَدُن طلوع الشمس إلى ارتفاع الضّحى؛ فقتل بعضهم بعضًا، لا يسأل والد عن ولده ولا ولد عن والده، ولا أخ عن أخيه ولا أحد عن أحدٍ، كل من استقبله ضربه بالسيف وضربه الآخر بمثله؛ حتى عَجَّ موسى إلى الله صارخًا: يا ربّاه، قد فنيت بنو إسرائيل! فرحمهم الله وجاد عليهم بفضله؛ فقبل توبةَ من بقي وجعل مَن قُتل في الشهداء؛ على ما يأتي. اهـ.

.قال الفخر:

.فائدة: في تحديد الليالي بأربعين:

إنما قال أربعين ليلة لأن الشهور تبدأ من الليالي. اهـ.
وقال البغوي:
وقرن بالليل دون النهار، لأن شهور العرب وضعت على سير القمر، والهلال إنما يهل بالليل، وقيل، لأن الظلمة أقدم من الضوء وخلق الليل قبل النهار قال الله تعالى: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} [يس: 37]. اهـ.

.فصل: معنى قوله تعالى: {وَإِذْ واعدنا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}:

قال الفخر:
قوله تعالى: {وَإِذْ واعدنا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} معناه واعدنا موسى انقضاء أربعين ليلة كقولهم: اليوم أربعون يومًا منذ خرج فلان، أي تمام الأربعين، والحاصل أنه حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، كما في قوله تعالى: {واسئل القرية} [يوسف: 82] وأيضًا فليس المراد انقضاء أي أربعين كان، بل أربعين معينًا وهو الثلاثون من ذي القعدة والعشر الأول من ذي الحجة لأن موسى عليه السلام كان عالمًا بأن المراد هو هذه الأربعون، وأيضًا فقوله تعالى: {وَإِذْ واعدنا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} يحتمل أن يكون المراد أنه وعد قبل هذه الأربعين أن يجيء إلى الجبل هذه الأربعين حتى تنزل عليه التوراة، ويحتمل أن يكون المراد أنه أمر بأن يجيء إلى الجبل هذه الأربعين ووعد بأنه ستنزل عليه بعد ذلك التوراة، وهذا الاحتمال الثاني هو المتأيد بالأخبار. اهـ.

.قال القرطبي:

قال النقاش: في هذه الآية إشارة إلى صلة الصوم؛ لأنه تعالى لو ذكر الأيام لأمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل، فلما نصّ على الليالي اقتضت قوّة الكلام أنه عليه السلام واصل أربعين يومًا بلياليها.
قال ابن عطية: سمعت أبي يقول: سمعت الشيخ الزاهد الإمام الواعظ أبا الفضل الجوهريّ رحمه الله يعظ الناس في الخلوة بالله والدُنو منه في الصلاة ونحوه، وأن ذلك يشغل عن كل طعام وشراب، ويقول: أين حال موسى في القرب من الله! ووِصال ثمانين من الدهر من قوله حين سار إلى الخضر لفتاه في بعض يوم: {آتِنَا غَدَاءَنَا} [الكهف: 62].
قلت: وبهذا استدل علماء الصوفية على الوصال، وأن أفضله أربعون يومًا.
وسيأتي الكلام في الوصال في آي الصيام من هذه السورة إن شاء الله تعالى.
ويأتي في زيادة أحكام لهذه الآية عند قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142]، ويأتي لقصة العجل بيانٌ في كيفيته وخُواره هناك وفي طه إن شاء الله تعالى. اهـ.

.قال الفخر:

قوله هاهنا: {وَإِذَا واعدنا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} يفيد أن المواعدة كانت من أول الأمر على الأربعين، وقوله في الأعراف {وواعدنا موسى ثلاثين لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} يفيد أن المواعدة كانت في أول الأمر على الثلاثين فكيف التوفيق بينهما؟
أجاب الحسن البصري فقال: ليس المراد أن وعده كان ثلاثين ليلة ثم بعد ذلك وعده بعشر لكنه وعده أربعين ليلة جميعًا، وهو كقوله: {ثلاثة أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]. اهـ.

.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {وَإِذْ واعدنا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}، قرأ أبو عمرو {وإِذْ وَعَدْنَا مُوسَى} بغير ألف، وقرأ غيره {واعدنا} بالألف، فمن قرأ بغير ألف فمعناه ظاهر، يعني أن الله تعالى وعد موسى عليه السلام ومن قرأ بالألف فالمواعدة تجري بين اثنين، وإنما كان الوعد من الله تعالى ومن موسى الوفاء، ومن الله الأمر، ومن موسى الائتمار.
فكأنما جرت المواعدة بين الله تعالى وبين موسى.
وقد يجوز أن تكون المفاعلة من واحد، كما يقال: سافر ونافق.
ويقال: أربعين ليلة كانت ثلاثين ليلة منها من ذي القعدة وعشرًا من ذي الحجة.
وقال بعضهم: ثلاثين كانت من ذي الحجة وعشرًا من المحرم وكانت مناجاته يوم عاشوراء.
وروى الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس أنه قال: لما وعدهم موسى أربعين ليلة، عدَّت بنو إسرائيل عشرين يومًا وعشرين ليلة، وقالوا: قد تمت أربعون ولم يرجع موسى، فقد خالفنا.
وذكر أن السامري قال لهم: إنكم استعرتم من نساء آل فرعون حليهم ولم تردوه عليهم، فلعل الله تعالى لم يرد علينا موسى لهذا المعنى، فهاتوا ما عندكم من الحلي حتى نحرقه، فلعلَّ الله يرد إلينا موسى فجمعوا ذلك الحلي، وكان السامري صائغًا فاتخذ من ذلك عجلًا، وقد كان قبل ذلك رأى جبريل عليه السلام على فرس الحياة، فكلما وضع حافره اخضر ذلك الموضع، فرفع من تحت سنبكه قبضة من التراب، ونفخ ذلك التراب في العجل فصار ذلك عجلًا جسدًا له خوار.
وروي عن ابن عباس أنه قال: صار عجلًا له لحم ودم وفيه حياة له خوار.
وروي عن علي أنه قال: اتخذ عجلًا جسدًا مشبكًا، من ذهب له خوار، فدخل الريح في جوفه وخرج من فيه كهيئة الخوار.
فقال للقوم: هذا إلهكم وإله موسى فنسي، يعني أن موسى أخطأ الطريق.
وقال بعضهم: كان موسى وعدهم ثلاثين ليلة، فتمَّ ميقات ربه أربعين ليلة، لأنه قد أفطر من الصِّيام في تلك العشرة، لأنه ظهر لهم الخلاف في تلك العشرة وهذا الطريق أوضح. اهـ.